اليوم المرير
وفي مبنى الموساد . . كانت الوجوه مرهقة . . خائفة . . متوترة. فالعمليات الفدائية اشتدت وطأتها . . والمعومات المتاحة بعيدة عن التفاصيل. ومنذ صدرت الأوامر لأمينة باستدراج أبو ناصر بحرص، كانت رسائلها تجيء مشوهة . . بخيلة . كأنما يتعمد الضابط الفلسطيني ذلك، وهو ما يعني أن العميلة وقعت تحت بؤرة الشك . . أو أنها انكشفت فعلاً . فخبر التسلل الأخير عبر البحر كان حقيقياً من حيث التوقيت. . لا المكان. أما خبر عملية تل أبيب . . فكان أكثر شكاً . . وغموضاً. . ورعباً. بل هو الرعب نفسه . . والدمار كله لإسرائيل.
هكذا يمر الوقت ثميناً. . يحمل بين دقاته انفجارات الموت البطيء. ورجال الموساد يقلبون الأمر في ارتباك، ويخضعونه للتحليل الدقيق. لكنهم عجزوا عن الوقوف على إجابات مقنعة. . وحاصرتهم تساؤلات محيرة أزادتهم إرهاقاً. . وجنوناً. . وإمعاناً في مزيد من الحرص . . صدرت الأوامر لأمينة بمغادرة صور الى بيروت فوراً. والتوقف نهائياً عن *** المعلومات أو بث الرسائل. لكن العميلة الغاضبة العنيدة . . بثت رسالة اليهم قلبت الموازين كلها . . وأذهبت بعقول الكبار قبل الصغار في الموساد. إذ زفت اليهم أمينة خبراً عن تسلل سبعة فدائيين في غبش الفجر، يحملون أسلحة الـ آر.بي.جيه، ومدافع الكلاشينكوف القاذفة، والقنابل الهنغارية، وكميات من عجائن المتفجرات، بقصد تفجير مستعمرة جيشر هازيف (على بعد ستة كيلومترات شمالي نهاريا) بمناسبة عيد إسرائيل القومي. فانطلقت قوات الأمن تطوق المستعمرة، وانتشرت نقاط التفتيش بكل الطرق، ومع أولى تباشير الخامس عشر من مايو 1974، كانت المعركة الشرسة قد بدأت، ولكن بمنطقة أخرى أبعد عن تصورهم . . وتوقعهم.
وكانت العملية هذه المرة في قرية معالوت. حيث حاصر الفدائيون السبعة القرية، وأمطروها بوابل من قذائفهم الصاروخية، وسيطروا تماماً على سكانها والطرق المؤدية اليها، كما دمروا عدة سيارات عسكرية حاولت الالتفاف لعزلهم عن القرية. وبعد ستة ساعات ونصف أسفرت المعركة عن إصابة 117 إسرائيلياً بينهم 25 قتيلاً . . ووقفت جولدا مائير أمام كاميرات التليفزيون في الكنيست وهي تكفكف دموعها وتقول:
"اليوم . . عيد ميلاد دولتنا الخامس والعشرين . . وقد أحاله الإرهابيون الى يوم مرير بالنسبة لإسرائيل".
لم تنصت أمينة المفتي لأوامر رؤسائها في الموساد بالتوقف - مؤقتاً – عن العمل. فما كان ذلك إلا لأجل حمايتها، لكنها كانت ككتلة الثلج التي ذاب ما حولها، فهوت مندفعة لا يجرؤ إنسان على إيقافها . . أو التصدي لها. كانت تحمل روحها على كفها. ولا تهتم بالخطر أو تحسب له حساباً. وفي لحظة . . استجمعت جرأتها في عنف . . وطلبت من مارون الحايك أن يزورها بشقتها في بيروت. فأسرع اليها يمني نفسه بوليمة فسق مثيرة، لكنه ما إن دلف الى الصالون، حتى وقف مذهولاً . . وقد تجمدت الدماء في عروقه . . وتعلقت عيناه الجاحظتان بنجمة داوود الزرقاء على الحائط.