من المواقف النبوية الدالة على أن الميزان الصحيح الذي يوزن به الرجال هو الدين والتقوى : موقفه صلى الله عليه وسلم ـ مع صحابي فقير اسمه جليبيب ـ رضي الله عنه ـ، ليس من أعلام وكبار الصحابة، ومع ذلك قال عنه ـ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ( هذا مني وأنا منه ) .
قال عنه ابن الأثير: " جليبيب بضم الجيم، عَلَى وزن قنيديل، وهو أنصاري، له ذكر في حديث أَبِي برزة الأسلمي في إنكاح رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابنة رجل من الأنصار، وكان قصيرًا دميمًا " .
وقال عنه ابن حجر: " غير منسوب .. أي لا يعرف نسبه "، ولكن ذكره أبو الفرج بن الجوزي في كتابه ( صفة الصفوة ) عن ابن سعد قال: " وسمعت من يذكر أن جليبيبًا كان رجلاً من بني ثعلبة حليفًا في الأنصار " .
أما قصته وموقف النبي صلى الله عليه وسلم معه فيرويها أبو بَرْزَةَ الأَسْلَمِىِّ رضي الله عنه فيقول : ( كانت الأنصار إذا كان لأحدهم أَيِّمٌ لَمْ يُزَوِّجْهَا حَتَّى يَعْلَمَ هل للنبي صلى الله عليه وسلم فيها حاجة أم لا، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لرجل من الأنصار: زوجني ابنتك، فقال: نِعِمَّ وَكَرَامَةٌ يَا رسول الله، وَنُعْمَ عَيْنِى، فقال: إِنّى لسْتُ أُريدها لنفسي، قال: فَلِمَنْ يا رسول اللَّه؟ قال: لِجُلَيْبِيبٍ، قال: فقال: يا رسول الله أشاور أمها، فأتى أمها فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب ابنتك، فقالت: نعم، ونعمة عيني، فقال: إنه ليس يخطبها لنفسه، إنما يخطبها لجليبيب، فقالت: أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟، أَجُلَيْبِيبٌ ابْنَهْ؟! لاَ لَعَمْرُ اللَّهِ لاَ تُزَوَّجُهُ، فلما أراد أن يقوم ليأتي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليخبره بما قالت أمها، قالت الجارية: من خطبني إليكم؟ فأخبرتها أمها، فقالت: أتردون على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمره، ادفعوني فإنه لم يضيعني، فانطلق أبوها إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبره، قال: شأنك بها، فزوجها جليبيبا، قال: فخرج رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في غزوة له، قال: فلما أفاء الله عليه، قال لأصحابه: هل تفقدون من أحد؟ قالوا: نفقد فلانا، ونفقد فلانا، قال: انظروا هل تفقدون من أحد؟، قالوا: لا، قال: لكني أفقد جليبيبا، قال: فاطلبوه في القتلى، قال: فطلبوه، فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فقالوا: يا رسول الله، ها هو ذا إلى جنب سبعة قد قتلهم، ثم قتلوه، فأتاه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقام عليه، فقال: قتل سبعة وقتلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه، مرتين، أو ثلاثا، ثم وضعه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على ساعديه، وحفر له، ما له سرير إلا ساعدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ثم وضعه في قبره، ولم يذكر أنه غسله ) رواه أحمد .
قال النووي: قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: ( هذا مني وأنا منه ): معناه المبالغة في اتحاد طريقتهما، واتفاقهما في طاعة الله تعالى " .
وفي الموقف النبوي مع جليبيب رضي الله عنه فوائد كثيرة، منها :
حب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأصحابه ـ رضوان الله عليهم ، وعنايته واهتمامه بأحوالهم، والسعي في قضاء حوائجهم، فكان لهم نِعْمَ الصاحب لأصحابه، يسعد لسعادتهم، ويحزن لحزنهم، ويسعى لتفريج كرباتهم، وقد ظهر ذلك في اهتمامه ـ صلوات الله وسلامه عليه بأمر جليبيب ـ رضي الله عنه ـ ووساطته في زواجه .
المكانة العظيمة التي تبوأها جليبيب ـ رضي الله عنه ـ وحب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الشديد له، مما جعله يتفقده ويسأل عنه، ثم يجعل ساعديه له سريرا بعد استشهاده، ويقول مرتين عنه: ( هذا مني وأنا منه )، وقبل ذلك ما ناله من شرف الشهادة في سبيل الله .
ـ منزلة الإنسان في ميزان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وسنته تكون على قدر تقواه، وبمقدار ما يقدم من تضحيات لأجل دينه، ولا عليه بعد ذلك أن يكون فقيرا، أو دميم الخِلقة، أو ضعيف النسب، وقد قال عن جليبيب ـ رضي الله عنه ـ: ( هذا مني وأنا منه ) رواه أحمد .